كشفت التحقيقات الأمنية والقضائية، في ملف “فضيحة الاستيراد”،عن نشاط شبكة منظمة متشابكة من الموظفين والمتعاملين الاقتصاديين داخل وزارة التجارة الخارجية وترقية الصادرات، شكلوا “إمبراطورية” لتبادل المنافع والتلاعب برخص الاستيراد، من خلال التأشير على الجداول التقديرية ما مكن عددا من المتعاملين من الحصول على تراخيص بطرق غير مستحقة مقابل عمولات تصل إلى 25 مليون سنتيم عن التدخل الواحد.
وقائع ملف الحال، تعود إلى يوم 8 سبتمبر 2025، حين وردت إلى مصلحة البحث والتحري بالمجموعة الإقليمية للدرك الوطني، معلومات مفصلة عن وقائع فساد تتعلق بنشاط شبكة منظمة عاثت فسادا بوزارة التجارة الخارجية من خلال التلاعب بطلبات الاستيراد تحت قيادة موظفة كانت تشغل منصبا بوزارة الخارجية وترقية الصادرات، تقوم باستغلال النفوذ الذي يتيحه لها منصبها بشكل مباشر أو غير مباشر، مع قبول مزايا غير مستحقة لصالحها بهدف منح منافع غير مستحقة هي الأخرى، كما اتهمت بسوء استغلال الوظيفة عمدا، من أجل أداء عمل في إطار ممارساتها ووظائفها على نحو يخرق القوانين والتنظيمات.
وجرى الإيقاع بالموظفة المذكورة، بفضل شخص مبلغ عن الفساد، سلم لمحققي الدرك هاتف المعنية المزود بشريحتين كانتا منفصلتين، وأكد أنه يحتوي على معطيات من شأنها أن تساعد في التحقيق، كونها تستعمل تطبيقة “الواتساب” في استقبال ملفات المتعاملين الاقتصاديين. وعليه تم إخطار وكيل الجمهورية لدى محكمة الدار البيضاء بالوقائع، فأمر بسماع ذلك الشخص في محضر مفصل بصفته مبلغا عن الفساد، مع موافاته بتقرير إخباري في هذا الشأن وفتح تحقيق آخر في وقائع القضية محل المعلومة.
وعلى هذا الأساس، باشر محققو فصيلة البحث والتحري، الاشتغال على القضية، أين تم تحرير طلب إذن بتفتيش مسكن المشتبه فيها، وقام المحققون بحجز هاتفها المحمول الذي كان بحوزتها مع تسليمها استدعاء مباشرا من أجل استكمال التحقيق، وفي نفس اليوم تقدمت المعنية إلى مقر مصلحة البحث والتحري للدرك. وخلال الاستماع إليها صرحت للمحققين أنه فعلا سبق لها تسهيل عدة عمليات لمستوردي المواد الأولية عبر المنصة الرقمية لوزارة التجارة الخارجية وترقية الصادرات وهذا من دون أي مقابل مادي، حيث اعتبرت أن هذه الأفعال قانونية وهي من باب “التوسط لزميلاتها وزملائها فقط”، كما أكدت أن الوساطات كانت تتم، حسبها، عن طريق استقبال الجداول التقديرية لمستوردي المواد الأولية عبر تطبيقة “واتساب” المحمّلة على هاتفيها النقالين، لتقوم بعد ذلك، حسب تصريحها، بطباعتها والتوجه إلى خلية المنصة الرقمية للوزارة للاستفسار عن المتعامل، وفي حالة استيفائه جميع الإجراءات تقوم بوضع ملفه من أجل إمضائه من طرف مدير الواردات بوزارة التجارة الخارجية وترقية الصادرات وهذا من دون أي مقابل سواء كان ماديا أو خدمة ما.
كما أكدت الموظفة، أن عدد تدخلاتها قدر ما بين 30 و40 تدخلا منذ إطلاق المنصة الرقمية لوزارة التجارة الخارجية وترقية الصادرات في 8 جويلية 2025، وقالت إنها لا تتذكر المستفيدين منها، كونها تدخلات بصفة غير مباشرة باستثناء تدخل لزميلتها “ص.ح” لتي طلبت تدخلا لصالح أحد معارفها، وتدخلات أخرى تجهل عددها للمدعو “ر.م” الذي يعمل بمكتب الاستقبال.
وفي نفس السياق، صرحت المشتبه بها للمحققين أن زوجها قام بسرقة مبلغ مالي قدره 420 مليون سنتيم منها، كان مخبأ في خزانة بغرفة الضيوف، وأن هذا المبلغ هو نتاج مدخراتها وبيعها بعض الحلي، وكانت تدخره من أجل شراء سيارة خاصة.
ومواصلة للتحقيق، تم استدعاء المشتبه فيها “ص .ح”، التي صرحت أنها تربطها علاقة وطيدة بالمشتبه فيها الرئيسية في ملف الحال، حيث تعرفت عليها بوزارة الصناعة كونهما عملتا سوية هناك، لتتطور العلاقة بينهما وتصبحا صديقتين مقربتين، وبحكم علاقتهما طلبت منها التوسط لأحد معارفها وهو صاحب شركة مختصة في إنتاج الجبن بالقليعة، من دون أي مقابل، وهذا بالاستفسار عن الإجراءات التي يجب القيام بها من أجل اقتناء آلات وشاحنات في المنصة، لتسهيل وتسريع اقتناء هذا المنتج، فوافقت على ذلك من دون أي تردد.
الدرك الوطني قام بالتدقيق والتمحيص في جميع مكالمات المتهمة وكذا الرسائل الواردة عبر “واتساب” المتهمة الرئيسية في ملف الحال، وباستغلال نتائج الخبرة التقنية المستخرجة، تم سماع المشتبه فيه “ر.م” ومواجهته بالدليل التقني، حيث انهار من الوهلة الأولى، مصرحا أنه سبق له التواصل مع المشتبه فيها عبر تطبيقة “واتساب”، حيث اعلمها بوجود متعامل اقتصادي يواجه مشكلا في أربعة برامج تقديرية، واضاف أن المتهمة أخبرته أنها ستقوم بحل هذه المشكل مقابل مبلغ مالي قدره 25 مليون سنتيم عن التدخل الواحد، حيث قام بالتفاوض معها من أجل خفض المبلغ إلى 20 مليون سنتيم مقابل كل برنامج، كما أضاف أنها تلقت طلب تدخل لصالح متعامل اقتصادي آخر مقابل 25 مليون سنتيم أيضا، فضلا عن قيامها بثلاثة تدخلات، لمتعاملين من وهران وعين تموشنت وبجاية.
وعلى ضوء ما سبق ذكره، تم مواجهة المعنية بالدليل التقني المتمثل في إرسالها خمسة جداول تقديرية لمستوردي المواد الأولية عبر تطبيق “واتساب” الخاص بها ويتعلق الأمر بكل من شركة “د.أ” الكائن مقرها بولاية بجاية وشركة “د.إ” الكائن مقرها بولاية بوهران وشركة “ف.س” ومقرها بوهران أيضا، إلى جانب شركة “ف م. م ك” الكائن مقرها بولاية وهران، وشركة “CES” الكائن مقرها بولاية عين تموشنت، حيث فسرت ذلك بأن هذا الأمر عادي وأنه بحكم عملها في الوزارة تلقت هذه الجداول من أصدقائها ومعارفها الذين يستفسرون عن سبب عدم الرد على طلباتهم المرسلة في “إيمايل” الوزارة.
كما توصلت التحقيقات في التسجيلات الصوتية للمشتبه فيها الرئيسية في وقائع الحال، إلى أنها قامت بشراء شقة بمنطقة “1 ماي” بالجزائر العاصمة بمبلغ مالي قدره 1.9 مليار سنتيم، حيث أن التسجيل الصوتي المرفوق بفيديو مدته 01 دقيقة و16 ثانية يوضح حالة الشقة.
واستكمالا للتحقيق، تم استدعاء المشتبه فيها الرئيسية للمرة الثانية، وجرت مواجهتها بالأدلة التقنية المستخرجة من هاتفها النقال بعد إجراء التفتيش الإلكتروني، حيث بدا عليها التوتر والانفعال والخوف، وصرحت أن كل البرامج التقديرية للاستيراد المستخرجة من هاتفها النقال هي لمتعاملين اقتصاديين محل وساطة، بطلبات من طرف زملائها ومعارفها وأنها توسطت لهم من دون أي مقابل، على خلاف طلب الوساطة الذي تلقته من طرف المسماة “ح.أمال” الذي كان مقابل توفير منصب شغل لأختها بأحد البنوك.
بالمقابل، فقد فسرت المحادثة التي دارت بينهما، والتي تضمنت كلمات تثير الشبهة على غرار “أفار هايلة ليك، شد مد فيها تبرديدة”، أنها لم تطلع عليها، محاولة بذلك التملص من المسؤولية الجزائية، في حين فسرت معنى كلمة “تبرديدة” على أنها “رشوة”.
وعند مواجهتها بالمحادثة التي جرت بينها وبين المشتبه فيه “ر.م” التي تضمنت “25 مليون وأنت أحسبيلو 20 مليون”، وهي المحادثة التي دارت حول مفاوضات لتخفيض العمولة كون المعني لديه 4 برامج تقديرية للاستيراد، فصرحت المتهمة أن الرقم 25 يتعلق بتاريخ، وكلمة “أحسبيلو” قالت إنها ظنت أن هناك خطأ في الكتابة وأنه يقصد بها “حبسيلو”، على الرغم من أن المشتبه فيه “ر.م” اعترف عند مواجهته بنفس المحادثة، أن الأمر يخص المبلغ المالي المقدر بـ25 مليونا مقابل تدخلها.
بالموازاة مع ذلك، خلصت التحقيقات إلى تواطؤ أحد الإطارات المكلفة بتسيير الواردات بوزارة التجارة الخارجية وترقية الصادرات سابقا، مع المشتبه بها الرئيسية في قضية الحال وهذا بصفته المخول قانونا بإمضاء الجداول التقديرية للمتعاملين الاقتصاديين، كما تبين أنه ساعدها في شراء شريحة هاتفية غير مسجلة باسمها، كونه هو من قدم لها نسخة من بطاقة تعريف بيومترية لهذا الغرض، فضلا عن علمه بالتجاوزات التي تقوم بها، كونه سبق وأن سألها ممازحا “هل بلغت ثمن شراء السيارة مقابل التدخلات التي تقومين بها للمتعاملين الاقتصاديين؟”
وتبعا لذلك، فإن قاضي التحقيق لدى محكمة الدار البيضاء، أمر في 22 أكتوبر المنصرم، بإيداع 17 تاجرا و5 موظفين من وزارة التجارة الخارجية الحبس المؤقت، من بينهم موظفة تعمل في مصلحة حساسة.
وقد أمرت نيابة الجمهورية لدى محكمة الدار البيضاء، بفتح تحقيق ابتدائي معمّق في الوقائع، أفضى إلى كشف تورّط موظفين عموميين ومتعاملين اقتصاديين. وبعد ما تم تقديم المشتبه فيهم، تمت متابعتهم بـ”جنح إساءة استغلال الوظيفة، استغلال النفوذ وطلب وقبول مزية غير مستحقة”، مع التماس أمر بوضعهم رهن الحبس المؤقت.
وبعد استجواب المتهمين من قبل قاضي التحقيق لدى محكمة الدار البيضاء، أصدر أوامر بإيداع سبعة عشر متهماً رهن الحبس المؤقت، منهم تسعة موظفين عموميين وثمانية متعاملين اقتصاديين، فيما لايزال التحقيق القضائي في القضية متواصلا.




